فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقلبُ بعيد غير مطرد، واشتقاقه من السُمو لأنه رفع للمُسمَّى وتنويه له، وعند الكوفيين من السِّمة، وأصله وَسَمَ، حذفت الواو وعُوِّضت عنها همزةُ الوصل ليقِلَّ إعلالُها، ورُدَّ عليه بأن الهمزة لم تُعهَدْ داخلةً على ما حُذف صدرُه في كلامهم، ومن لغاتهم سِم وسُم قال:
باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ

وإنما لم يقل باللَّهِ للفرق بين اليمين والتيمُّن، أو لتحقيق ما هو المقصودُ بالاستعانة هاهنا، فإنها تكون تارة بذاته تعالى. وحقيقتها طلبُ المعونة على إيقاع الفعل وإحداثه، أي إفاضةُ القدرةِ المفسرةِ عند الأصوليين من أصحابنا بما يتمكن به العبدُ من أداء مالزِمه، المنقسمةِ إلى ممكِنة وميسِّرة، وهي المطلوبة بإياك نستعين، وتارة أخرى باسمه عز وعلا. وحقيقتها طلبُ المعونة في كون الفعل معتدًا به شرعًا فإنه ما لم يُصَدَّر باسمهِ تعالى يكون بمنزلةِ المعدوم. ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعةً وجب تعيينُ المراد بذكر الاسم، وإلا فالمتبادَرُ من قولنا بالله عند الإطلاق لاسيما عند الوصف بالرحمن الرحيم هي الاستعانة الأولى.
إن قيل: فليُحمل الباء على التبرك وليستَغْنَ عن ذكر الاسم، لما أن التبرك لا يكون إلا به، قلنا: ذاك فرعُ كون المراد بالله هو الاسم، وهل التشاجرُ إلا فيه، فلابد من ذكر الاسم لينقطعَ احتمالُ إرادة المسمَّى. ويتَعَينُ حمل الباء على الاستعانة الثانية أو التبرك. وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا: وطُوِّلتِ الباءُ عوضًا عنها.
والله أصله الإله، فحذفت همزته على غير قياس كما يُنْبِئ عنه وجوب الإدغام، وتعويض الألف واللام عنها، حيث لزماه وجُرِّدا من معنى التعريف، ولذلك قيل: يا ألله بالقطع، فإن المحذوف القياسيَّ في حكم الثابت، فلا يحتاج إلى التدارك بما ذُكِرَ من الإدغام والتعويض. وقيل: على قياس تخفيف الهمزة، فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل، ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسمّاه عما سواه بما لا يوجد فيه من نعوت الكمال.
والإله في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كل معبود بحقٍ أو باطل، أي مع قطع النظرِ عن وصف الحقية والبطلان، لا مع اعتبارِ أحدهما بعينه، ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصَّعِقْ. وأما الله بحذف الهمزة فعلم مختصّ بالمعبود بالحقِّ لم يطلق على غيره أصلًا، واشتقاقه من الإلاهة والأُلوهَة، والأُلوهِية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري، على أنه اسم منها بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب، لا على أنه صفة منها، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به، حيث يُقال إله واحد، ولا يُقال شيء إله، كما يُقال كتاب مرقوم، ولا يقال شيء كتاب. والفرق بينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذاتُ المبهمةُ باعتبار اتصافِها بمعنىً معيّنٍ وقيامِهِ بها. فمدلولها مركب من ذاتٍ مُبهمةٍ لم يُلاحظ معها خصوصية أصلًا، ومِن معنىً معينٍ قائمٍ بها على أن مَلاك الأمرِ تلك الخصوصية، فبأيِّ ذاتٍ يقومُ ذلك المعنى يصحّ إطلاقُ الصفة عليها، كما في الأفعال. ولذلك تَعْمَلُ عملها كاسمي الفاعلِ والمفعول. والموضوع له في الاسم المذكور هو الذاتُ المعينة والمعنى الخاص، فمدلوله مركب من ذَيْنِكَ المعنيين من غيرِ رجحانٍ للمعنى على الذات كما في الصفة، ولذلك لم يعمل عملها.
وقيل: اشتقاقه من إلِهَ بمعنى تحير، لأنه سبحانه يحارُ في شأنه العقول والأفهام. وأما أَلَهَ كعَبَدَ وزنًا ومعنىً فمشتق من الإلَه المشتق من إلِهَ بالكسر، وكذا تألَّه واستَأْلَه اشتقاق: استنوق واستحجر من الناقة والحَجَر. وقيل: من أَلِهَ إلى فلان أي سكن إليه، لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته. وقيل: من أَلِهَ إذا فزِع من أمرٍ نزل به، وآلَهَهُ غيرُه إذا أجاره، إذ العائذُ به تعالى يفزَع إليه وهو يُجيره حقيقة أو في زعمه. وقيل: أصله لاه على أنه مصدر من لاهَ يَلِيهُ بمعنى احتجب وارتفع، أطلق على الفاعل مبالغة. وقيل: هو اسمُ علمٍ للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد في قولنا لا إله إلاَّ الله.
ولا يخفى أن اختصاصَ الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقُه على غيره أصلًا كافٍ في ذلك، ولا يقدَح فيه كونُ ذلك الاختصاصِ بطريق الغَلَبة بعد أن كان اسمَ جنسٍ في الأصل، وقيل: هو وصف في الأصل لكنه لما غلب عليه بحيث لا يُطلق على غيره أصلًا صار كالعلم، ويردّه امتناعُ الوصف به.
وأعلم أن المراد بالمنَكَّر في كلمة التوحيد هو المعبودُ بالحق، فمعناها: لافرادَ من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبودُ بالحق. وقيل: أصلُه لاَهَا بالسريانية فعُرِّب بحذف الألف الثانية، وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة، وقيل: مطلقًا، وحذفُ ألفِه لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريحُ اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر في قوله:
ألا لا بارك اللَّهُ في سُهيل ** إذا ما اللَّهُ باركَ في الرجالِ

و{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صفتان مبنيتان من رَحِمَ بعد جعله لازمًا بمنزلة الغرائز، بنقله إلى رَحُمَ بالضم كما هو المشهور. وقد قيل: إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة، بل هي صيغة مبالغة، نص عليه سِيبَويه في قولهم: هو رحيم فلانًا. والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف، ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها. والمراد هاهنا التفضل والإحسان، وإرادتهما بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسَبّبِهِ البعيد أو القريب، فإنَّ أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعالات. والأولُ من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى، وإنما امتنع صرفُه إلحاقًا له بالأغلب في بابه من غير نظر إلى الاختصاص العارض، فإنه كما حظِر وجود فعلى حُظِر وجود فعلانة، فاعتبارُه يوجب اجتماعَ الصرف وعدمَه، فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص، بأن تقاس إلى نظائرها من باب فَعِلَ يَفْعَلُ، فإذا كانت كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فَعْلى فيها، علم أن هذه الكلمة أيضًا في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى، فتُمنع من الصرف، وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياسِ تأخيرَه رعايةً لأسلوب الترقي إلى الأعلى، كما في قولهم فلان عالم نِحْرير، وشجاع باسل، وجَوَاد فيَّاض، لأنه باختصاصه به عز وجل صار حقيقًا بأن يكون قرينًا للاسم الجليل الخاص به تعالى، ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحقُّ بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها. وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة. اهـ.

.قال الألوسي:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فيها أبحاث:

.البحث الأول: في هل البسملة من خواص هذه الأمة أم لا؟

اختلف العلماء فيها هل هي من خواص هذه الأمة أم لا؟ فنقل العلامة أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله تعالى افتتح كل كتاب بها وروى السيوطي فيما نقله عنه السرميني والعهدة عليه: {بسم الله الرحمن الرحيم} فاتحة كل كتاب، وذهب هذا الراوي إلى أن البسملة من الخصوصيات لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم إلى أن نزل: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا} [هود: 41] فأمر بكتابة بسم الله حتى نزل: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] فأمر بكتابة بسم الله الرحمن إلى أن نزلت آية النمل فأمر بكتابة {بسم الله الرحمن الرحيم} ولما اشتهر أن معاني الكتب في القرآن ومعانيه في الفاتحة ومعانيها في البسملة ومعاني البسملة في الباء فلو كانت في الكتب القديمة لأمر من أول الأمر بكتابتها ولكانت معاني القرآن في كل كتاب واللازم منتف فكذا الملزوم، وفيه أن الأمر بذلك التفصيل لا يستلزم النفي لاحتمال نفي العلم إذ ذاك ولا ضير وأن المختص بالقرآن اللفظ العربي بهذا الترتيب والكتب السماوية بأسرها خلافًا للغيطى غير عربية وما في القرآن منها مترجم فلربما لهذه الألفاظ مدخل في الاشتمال على جميع المعاني فلا تكون في غير القرآن كما توهمه السرميني وإن كان هناك بسملة على أن في أول الدليلين بظاهره دليلًا على عدم الخصوصية.

.البحث الثاني: البسملة في غير النمل:

وهو من أمهات المسائل حتى أفرده جمع بالتصنيف اختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال الأول: إنها ليست آية من السور أصلًا الثاني: أنها آية من جميعها غير براءة الثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها الرابع: أنها بعض آية منها فقط الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنًا للفصل بينها السادس: أنه يجوز جعلهاآية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين.
السابع: أنها بعض آية من جميع السور الثامن: أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور التاسع: عكسه العاشر: أنها آيات فذة وإن أنزلت مرارًا فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني، وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث وأهل المدينة ومنهم مالك والشام ومنهم الأوزاعي والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس وهو المشهور من مذهبنا وعلى المرء نصرة مذهبه والذب عنه وذلك بإقامة الحجج على إثباته وتوهين أدلة نفاته وكنت من قبل أعد السادة الشافعية لي غزية ولا أعد نفسي إلا منها، وقد ملكت فؤادي غرة أقوالهم كما ملكت فؤاد قيس ليلى العامرية فحيث لاحت لا متقدم ولا متأخر لي عنها:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ** فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا

إلى أن كان ما كان فصرت مشغولًا بأقوال السادة الحنفية وأقمت منها برياض شقائق النعمان واستولى عليّ من حبها ما جعلني أترنم بقول القائل:
محا حبها حب الألى كن قبلها ** وحلت مكانًا لم يكن حل من قبل

وقد أطال الفخر في هذا المقام المقال وأورد ست عشرة حجة لإثبات أنها آية من الفاتحة كما هو نص كلامه ولا عبرة بالترجمة فها أنا بتوفيق الله تعالى راده ولا فخر وناصر مذهبي بتأييد الله تعالى ومنه التأييد والنصر فأقول قال:
الحجة الأولى: روى الشافعي عن ابن جريج عن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد {بسم الله الرحمن الرحيم} آية.
{الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} آية.
{الرحمن الرحيم} آية.
{مالك يَوْمِ الدين} آية.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} آية.
{اهدنا الصراط المستقيم} آية.
{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} آية، وهذا نص صريح.
الحجة الثانية: روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن {بسم الله الرحمن الرحيم}».
الحجة الثالثة: روى الثعلبي بإسناده عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت بلى قال: بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ فقلت {بسم الله الرحمن الرحيم} قال: هي هي».
الحجة الرابعة: روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال: أقول: {الحمد لله رب العالمين} قال: قل {بسم الله الرحمن الرحيم}» وروى أيضًا بإسناده عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} وروى أيضًا بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه: أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص.
وروى أيضًا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني والقرءان العظيم} [الحجر: 7 8] قال: فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم}.
وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنها إحدى آياتها».
وبإسناده أيضًا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: {بسم الله الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: مجدني عبدي وإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله حمدني عبدي وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليَّ عبدي فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: فوض إليَّ عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» وبإسناده أيضًا عن أبي هريرة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والنبي يحدث أصحابه إذا دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال: {الحمد لله رب العالمين} فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال له «يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن {بسم الله الرحمن الرحيم} من الحمد فمن تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع عليه صلاته فإنه لا صلاة إلا بها فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته» وبإسناده عن طلحة بن عبيد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} فقد ترك آية من كتاب الله».